مهند… قافلة الشهداء وراية السودان‏‎

‏‎لم يكن رحيل مهند مجرّد خبرٍ عابرٍ في صحائف الأيام، بل كان صدمة روحٍ وفقد قلبٍ واستيقاظ أمة. مهند لم يكن شابًا بيننا، بل كان روحًا متقدة حملت همّ السودان في قلب واحد، ووهب عمره القصير للمجد الكبير، ومضى كما تمضي الطيور النقية إلى عليائها، مخلفًا فينا شوقًا وجرحًا وعهدًا لا ينطفئ.‏‎يوم اندلاع الحرب في ١٥ أبريل ٢٠٢٣، حين تبدّلت الملامح، وهبّت نيران الفتنة، كان مهند أول الذاهبين إلى المتارس. لم يتردّد، لم يلتفت وراءه، لم يساوم بين حياته ووطنه، بل حمل بندقيته والتحق بالمدرعات، ذلك الحصن الصامد في قلب الخرطوم، المدافع عن شرف السودان وأهله في وجه الباغية والخيانة. ومنذ تلك اللحظة وحتى آخر أنفاسه، لم يعد إلى أهله، لم يعرف للراحة سبيلًا، عاش مرابطًا وصمد حتى ارتقى.‏‎كان مهند كغيره من الشهداء الذين شيّدوا أعمدة التاريخ بالإيمان، يستضيء بسيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وبمصعب بن عمير، وخباب بن الأرت، ويقتفي أثر الشهداء علي عبد الفتاح والزبير محمد صالح وصحبهم الميامين؛ قافلة متواصلة من الدم الطاهر والعزم الصادق. لم يكن غريبًا أن يلتحق بهم، بل كان مقدّرًا أن يكون بينهم، صفحة جديدة في سجل الخالدين. أخي إن تغشَّتنا بزخرفها الدناوإن قعدت منّا القوى والعزائم.. ذكرناك فالعهد القديم موثَّقٌوميعادُنا أن نلتقي بك قائم..‏‎وصية مهند (صوته من خلف المتارس) صمتُ لينطقَ المدفعُ لينبلجَ رشاشٌ في أعماقِهم يرتعُصمتُ لأنني أيقنتُ أن القولَ لا ينفعُ‏‎مهند لم يكن جنديًّا عاديًّا، بل كان طاقة من الإيمان، كأنه صلاة تتنفس بين أزيز الرصاص، وابتسامة لا تنطفئ في وجه الموت. عرف أن الكلمات لا تحرّر أوطانًا، وأن الصدق يُكتب بالدماء، فانبرى في ساحة القتال رجلًا بكامل معناه.‏‎وصية مهند (العهد)‏‎وصوته يعلو من علياء الشهداء: فما دامت رياض الخلد تحت قذائف المدفعِفقِفْ واسمع لرشاشي إذا جلجلَ أو قعقعُفكبّر إنني ماضٍ لرفع الراية الأرفعُولن أرجع… ويمُ الله لن أرجعُ‏‎سلامٌ على مهند… سلام على من خرج من بيته مودعًا الدنيا، سلام على من عاش رابط الجأش بين رفاقه، سلام على من مضى إلى الله شهيدًا طاهرًا. وسلام على من ساروا معه في درب العزة ولم يلقوا السلاح بعد، وسلام على كل من حمل قضية هذا الوطن في دمه قبل قلبه.‏‎وصية مهند (الميدان) أنا والله عزّ وجلّ والمدفعُودندنْ للتسابيح السماوية بالمدفعِولا تهدأ، ولا تروّع، ولا تقنعُودُر النار كالإعصار في أركانهم وارتعُ‏‎نم قرير العين يا مهند… لقد أوفيت الوعد، وصنت العهد، ومضيت حيث كان قلبك يتوق كل ليلة. بلّغ من سبقوك أن السودان ما زال في الميدان، وأن أحبّتك ورفقاء دربك على الوفاء باقون، لا يضعفون ولا يستسلمون.‏‎وصية مهند (الثبات)‎ وكبّرْ ثم صحْ فيهم: لغيرِ الله لن نركعُوعزّةَ ربّنا الرحمن للطاغوت لن نركعُعرفنا اللهَ والنورَ الذي يبقى ولا يُقطعُعرفنا التاريخَ والرصاصَ والمعمعُ‏‎وفي لحظات الوداع، كأن آخر ما تركه لنا كان هذا النداء:‏‎وصية مهند (الصدى الأخير) ففينا خالدٌ باقٍ، وفينا حمزةُ يردعُوفينا من له في الحرب كم من مشهدٍ أروعُعرفنا أنّ حدَّ الظلم بين قذائف المدفعِ‏‎‏‎سلام عليك يا مهند، يوم خرجت في سبيل الله والسودان، سلام عليك يوم جاهدت وربطت على جراحك، سلام عليك يوم مضيت قرير العين، تحمل بين يديك راية لا تنكس. سلام على رفاقك الذين مضوا، وسلام على من بقوا ليكملوا ما بدأتم.‏‎نم يا شهيد السودان لقد تركت وفاءك لنا أمانة، ودمك لنا عهدًا، واسمك لنا راية. وإن غدًا لناظره قريب، حيث يتحقق وعد الله بأن دماء الشهداء لا تضيع هدرًا، بل تكون صلبًا يُشيّد عليه فجر السودان الجديد.‏‎اللهم تقبّل الشهيد مهند وصحبه الكرام في علّيين، واجعل قبورهم رياضًا من رياض الجنة.‏‎اللهم اربط على قلوب أهليهم ومحبيهم، واغمرهم برضاك وصبرك ونورك.‏‎اللهم اجعل دماء الشهداء حصنًا وسياجًا لعزة السودان، وحريةً لأهله، وفتحًا قريبًا برحمتك.‏‎اللهم كما رفعت أرواحهم في السماء، فارفع رايات السودان في الأرض، وامحُ عنها رجس المعتدين والخائنين.‏‎اللهم اجعلنا على دربهم ماضين، وبنهجهم مخلصين، واطوِ أعمارنا على كلمة الحق كما طويت أعمارهم على الشهادة.اخوك/ طارق حمزة زين العابدين 22 اغسطس 2025

إرسال التعليق

You May Have Missed

error: Content is protected !!