التغيير الديمغرافي في التركيبة السكانية لشعب السودان هو أحد الأهداف الرئيسية للحرب على السودان، وهو هدف تم التخطيط له جيداً ومنذ مدة طويلة..
ونسعى في هذا المقال لاستعراض كيف وماذا تستفيد بعض الدول من تغيير التركيبة السكانية للسودان عبر تشريد سكانه الأصليين واستبدالهم بآخرين.
في العام 2014 أعلن الاتحاد الأوربي عن مبادرة تختص بتحديات الهجرة غير الشرعية عرفت باسم (عملية الخرطوم) تتولى إدارتها الوكالة الألمانية للتعاون الدولى (GAZ ) وبالتوازي معها تم إنشاء مركز استخباراتي أوروبي في قلب الخرطوم (RoCk) اسندت إدارته لشركة أمنية حكومية فرنسية.. قالوا أن التركيز على السودان مبعثه هو أن السودان بلد منشأ وعبور ومقصد، وأنه ملتقى طرق هجرة من شرق وغرب أفريقيا إلى أوروبا والشرق الأوسط..
وفي العام 2015 أنشأ الاتحاد الأوروبي صندوقاُ بقيمة 2 مليار يورو (الصندوق الائتماني للاتحاد الأوربي لأفريقيا) وتم تكليف عملية الخرطوم بتفيذ المبادرات الممولة عبر الصندوق.. صرح متحدث باسم الاتحاد الأوروبي لشبكة DW (إذاعة صوت ألمانيا) بأن أحد المشروعات التي تقودها ألمانيا يوفر المعدات والتدريب لقوات حرس الحدود “الدعم السريع”..
(ورد في تقارير منظمة أوكسفام وهيومن رايتس ووتش إن المواطنين في السودان يتحدثون عن تمويل الاتحاد الأوربي لقوات الدعم السريع وأن هذا التمويل يستخدم في شراء الأسلحة المتطورة).. من مقال للويز سوليفان التي عملت كمستشار من أجل “إدارة أفضل للهجرة” 2017-2019 نُشر في مايو 2021.
وينص موقع BMM على أن أموال الاتحاد الأوروبي توفر المساعدة الفنية والأدوات والمعدات للدعم السريع.. اتفق جميع المراقبين في المنظمات والهيئات المهتمة بمتابعة قضايا الهجرة والقضايا الإنسانية على أن تمويل عملية الخرطوم معقد وغير شفاف وهو بذلك يفتح الباب على كثير من الاتهامات حول توفير المعدات و تمويل الجنحويد وقد جاء في صحيفة الاوبزيرفر البريطانية الصادرة في 4-6-2023 أن الإتحاد الأوروبي يدفع المليارات للعصابات المسلحة في أفريقيا كي تمنع المهاجرين!!
الباحث عن الحقيقة القادر على استنباط المعلومات وربط الشواهد مع ما جرى ويجرى في السودان والمنطقة يدرك تماماً أن عملية الخرطوم التي أسهمت في تمويل وتدريب “الدعم السريع” إنما كانت غطاءً لعدد من العمليات والمهام التي شاركت بعض الدول الأوروبية في التخطيط والترتيب لها، وعلى رأسها ثورة ديسمبر ومقتل إدريس دبي وفوز محمد بازوم في انتخابات النيجر والفوضى في مالي وافريقيا الوسطى، وسيكتشف أن لعملية الخرطوم هدف مستتر بالإضافة لهدفها المعلن وهو جعل الخرطوم نفسها وجهة لهجرة جديدة يتم عبرها إفراغ دول أفريقية بعينها من بعض مكوناتها القبلية والعقدية ليتم توطينها في السودان، والقبائل المعنية هي قبائل مشتركة بين دول الإقليم كما أنها تشكل حواضن قبلية لحركات جهادية وتنظيمات متطرفة.
لقد شكل السودان بتنوعه الإثني وامتداده القبلي ومساحته وثرواته ووضعه السياسي والاقتصادي الهش فرصة ذهبية لدول استعمارية يعتمد اقتصادها على ثروات وموارد دول أفريقيا الفرنسية (مصطلح يستخدم للتعبير عن دول كانت تحت الاحتلال الفرنسي وما زالت تحت وصايته الاقتصادية والسياسية)، وتنتمي معظم دول إقليم الساحل والصحراء لهذه المجموعة.. وقد أصبحت ألمانيا مؤخراً شريكاً أساسياً لفرنسا في محاولات إبقاء تلك الدول تحت الهيمنة.. فقد تدخلت فرنسا عسكرياً في أفريقيا ما بعد الاستقلال حوالي ثلاثين مرة ومازالت تمتلك عدة قواعد عسكرية داخل الإقليم.. وزار الرئيس الفرنسي الحالي مانويل ماكرون أفريقيا إلى الآن خلال فترة حكمه 18 مرة أما المستشار الألماني أولاف شولتس والذي تمتلك بلاده أيضاُ قواعد عسكرية في المنطقة فقد قصد أفريقيا في أولى جولاته الخارجية.
تواجه معظم دول الساحل والصحراء، (ليبيا، بوركينا فاسو، مالي، تشاد، السودان، النيجر، إريتريا، جمهورية أفريقيا الوسطى، السنغال، غامبيا، جيبوتي، مصر، المغرب، تونس، نيجيريا، الصومال توغو وبنين) +الكاميرون ، اضطرابات مسلحة وحركات تمرد وتطرف ينتمي معظمها لذات القبائل المشتركة التي يغلب عليها العنصر العربي الجهيني الذي ينتسب إليه معظم قادة وجنود الدعم السريع.
وتتداخل المكونات القبلية مع الحركات المتطرفة في معظم دول الإقليم الغني جدا بالموارد التي يعتمد عليها الاقتصاد الفرنسي ثم الألماني،
وقد جاء في بحث بعنوان “البعد القبلي داخل التنظيمات الإرهابية والمتطرفة في أفريقيا”، صادر عن مركز سيمو – باريس 29/يوليو/2018).
أن (ضعف الدولة الأفريقية وهشاشتها لاسيما في المناطق الحدودية التي تعاني من غياب الأجهزة والمؤسسات الأمنية، شكل أحد العوامل التي ساعدت على تنامي الارتباط ما بين الجماعات الإرهابية، والقبائل الأفريقية، وهو الأمر الذي جعل اتجاهات عديدة تصف الإرهاب في أفريقيا بالإرهاب الهجين الذي تتجاوز ملامحه الفهم المختزل للتنظيمات الجهادية، إذ لا تهدف الأنشطة الإرهابية إلى تحقيق غايات دينية وهوياتية فحسب، ولكنها تتشابك أيضًا مع الهيمنة القبلية).
ومن الواضح أنه تمّ رسم خطة للتخلص من (القبائل والحركات) التي تسبب إضطرابات في المنطقة، بحيث لا تتحمل الدول المستفيدة منها عبء شن الحروب وإرسال الجند، وقد بنيت الخطة على فكرة صناعة بطل قومي ينتمي لتلك القبائل ويسعى لجمعها في بلد واحد غني يكونون هم سادته وحكامه.. وقد اجتهدوا في تغذية طموح محمد حمدان دقلو برغم أنهم كانوا يعلمون أن صناعة دولة العرب (العطاوة) على أرض السودان هو حلم ستهدر في سبيله انهار من الدم وأن الحرب ستطول وستجذب إليها الكثير من أعضاء التنظيمات الإرهابية المتطرفة من أبناء تلك القبائل وربما من غيرها أيضاً.
لقد أرادت أوروبا أن تتخلص من قبائل محاربة ومتمردة وتعمل كحواضن قبلية لتنظيمات ترى في وجودهم واستثماراتهم على أراضيها هدفاً جهادياً مشروعاً.. فخططوا للتخلص منهم عبر جرهم إلى حلم الاستيطان في السودان ومحرقة حرب السودان.
قال “شون ماكفيت” مؤلف كتاب “المرتزقة الجدد.. الجيوش الخاصة والنظام الدولي” المرتزقة هم خيار جذاب للغاية للدول الغنية لشن الحروب التي لا يرغب مواطنوها في شنها”.
ويبدو أن الامارات تأتي على رأس قائمة تلك الدول الغنية.. وهى قد وجدت في الدعم السريع أرخص أنواع المرتزقة واكثرهم عدداً، فقد كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية بتاريخ 10/8/2023 “إن دولة الإمارات تراهن على دعم قوات حميدتي لحماية مصالحها في السودان والاستفادة من موقعه الإستراتيجي على البحر الأحمر ونهر النيل، والوصول إلى احتياطات الذهب السودانية الهائلة. علمًا أن من أهم مصالح الإمارات بالسودان مساحات شاسعة من الأراضي الفلاحية، وحصة في ميناء مخطّط له على البحر الأحمر بكلفة 6 مليارات دولار”.
ومرتزقة الدعم السريع هم خيارها الأفضل لفرض احتلالها المستتر لدولة بحجم السودان وموارده المتنوعة، وهم جيشها الأرخص كلفة لفرض هيمنتها عبر الدول.
يبدو أن الاستيلاء على ثروات وأراضي السودان هو جزء من مخطط إماراتي يشمل تحويل السودان إلى (مزرعة سعيدة) لإنتاج وتفريخ المرتزقة لصالح دولة الإمارات وأطماعها التوسعية.